مراحل تحول الوغد :D

تصفيق حاد, نظرات إعجاب وفخر, في مبنى المؤتمرات بجامعة برينستون بالولايات المتحدة, ناظرا إليهم دكتور أدهم في إبتسامه تملأ وجه, عقب تحدثه الزكي عن آخر ابحاثه العلمية. يحي الحضور ثم يبدأ بتلقي اسألة الجميع, يحب ان يرى هذا الاهتمام من طلابه, قرنائه, وزملائه. بعد إنتهاء المؤتمر ذهب إلى صالة الاستقبال ليتحدث قليلا مع الحضور ثم رحل ليباشر اعماله. قد يذهب إلى صالة الاعاب الرياضية, ثم يأخذ شيء سريعا ليأكله, يتوجه إلى المستشفى التي يعمل بها, ولا يتركها قبل إقتراب منتصف الليل, في طريقه للعودة يقوم بسماع بعض من الكتب المسجلة على إحدى التطبيقات المتوفرة على هاتفه, دائما ما ينتظر بسيارته لمدة دقائق, ينظر إلى بيته طويلا ويتذكر آخر صديقة تركته منذ أيام من كثرة إشتغاله, يغلق التطبيق, ويمشي في خطواتا بطيئة إلى البيت, يدخل ولا يكاد يرى امامه, يقبل عليه رودريجو وهو ينبح في سعادة فيحضنه بشدة, ويتأكد من أن الخادمة وضعت له ما يكفيه من الطعام, يأخذ حماما ساخنا ثم يغفو دون القدرة على التفكير بأي شيء, وما هي غير ساعات قليلة, ليصحو ويبدأ يوما جديدا. قد يختلف صباحه ما بين محاضرات في الجامعة, مقابلات علمية, او إستدعاء لحالة طارئة ليذهب مسرعا تاركا كل شيء خلفه.

********

القاهرة 2008

في بيت بيكي صديقة رانيا الارجنتينية, تعرفت عليها رانيا حينما كانت تبحث عن احد ليعلمها اللغة العربية, وتعلمها بيكي بدورها رقصات السالسا والتشاتشا والبتشاتا, اصبحتا اصدقاء واشتغلت معها رانيا مدربة رقص للمبتدئين, بالصالة التي إستأجرتها بيكي بجوار منزلها بالمعادي. كانت قد درست رانيا بكلية الطب ووجدت من المنزاعات كثيرا حينما قررت أن تترك الطب والهروب لكل ما يشغلها من شغف لدراسة الفنون الادبية والرقصات العالمية, درست الاداب الاسبانية بجانب دراستها للطب, وقررت ان تكمل رحلتها تلك, كان جننونها مصدر إلهام للكثيرون, اقترب منها أدهم سليمان الطالب المتفوق بكلية الطب, كان دائما يحاول الدخول إلى عالمها, العالم التي تحدته كثيرا أن يتقبله كما هو, حاول بجهد أن يثبت العكس, كان دائم التشجيع لها أن تسعى وراء ما تؤمن به. وجد جزأ من روحه يجذبه إلى عزوبة حركاتها, بصالة الرقص المدعوة “Passion”. إقترب منها بخفة, وضع يده حول خصرها, وامسك بيدها الاخرى, جذبها إليه بقوة مما جعل كلماته الخافتة تدنو كالموسيقى بأذنيها, قال وهو ينظر بعينها مباشرة “رانيا, مش انت بس اللي بتعرفي ترقصي, مش أنت بس اللي مجننونة”, بعد مرور سنتين على صداقتهما, شعرت بأنه قد حان الوقت, لتستسلم للفكرة. إقتربت منه بعفوية ثم تركته يقود حركاتهما, غير مبالية بعبثية ادائه. أمسك بأطراف زارعها, لفت معه, ثم رجعت بين زراعيه, إنحنى بها إلى الاسفل بقوة راقص محترف, لم تدرك ما تفعل سوا أنها وضعت قبلة رقيقة على خذه, وقفا امامها ثم ضمها إليه بشغف ملأ روحيهما.

********

إستدعته جامعة فرنسية لحضور مؤتمر طبي ليقدم خطابا عن آخر ابحاثه. سمع هذا الخبر من عميد الجامعة, وسأله كم يوما سيكون؟ فأجاب أربعة ايام, لديك الوقت لتستمتع حقا, إبتسم وقال بالطبع. في رحلته إلى منزله هذا اليوم, لم تستطع أصوات الكتاب من هذا التطبيق إن تعلو على أصوات عقله التي طالما كانت تثقله وتخيف قلبه, ظل يحاول جاهدا ليستمع إلى الكتاب الذي يروى عليه, ولكن إنتصرت افكاره وقام بإغلاقه. هدأ قليلا, ودخل إلى منزله تحدث قليلا إلى رودريجو قائلا “أنا هروح فرنسا ومش هدور عليها, إنت عارف إنها عايشة بقالها سنة في أسبانيا, وصلت للحلم ومبسوطة هناك” ينبح رودريجو ويقف على قدميه. فيقول “خلاص مش هاتكلم عنها تاني” يمر بيده على جسد صديقه ويقبله ويغلق المصباح وينام.

تصفيق حاد, تصفيق اعلى, في تلك اللحظة التي تملأ قلبه مرة أخرى ككل مرة, في صالة الاستقبال اقتربت منه دكتور فرنسواز, التي طلبت منه أن يناديها آديل فور تعرفه عليها, تحدثا طويلا عن أبحاث تقوم آديل بالعمل عليها, عن إكتشاف علاج أكيد لمرض السرطان, ودعته لزيارة المعمل لتريه بعض النتائج التي اجرتها على بعض الحيوانات, كان سعيدا حقا ليجد ما يلهيه عن العودة للقبو المظلم بعقله, قالت له سوف تمر لتأخذه وليذهبا سويا, رد بفرنسيته الطليقة, A bientot (اراكي بعد قليل)

ظلا بالمعمل لما يقارب ساعاتان, يقرأ النتائج والمعطيات, يتانقشان كثيرا, ثم تنشغل آديل بعض الوقت, فيتذكر محادثاته مع رانيا, يتذكر كيف كانت تسرق قلبه بكلامها الزكي, بأرآها الفلسفية في الحياة, تقطع آديل تفكيره بسؤال إذا ماكان راغبا في نزهة بشوارع باريس, إبتسم بالموافقة وذهبوا سويا, تحدثا عن مصر وعن رغبتها في زيارتها هناك وحبهما للقهوة, سألته آديل إذا كان متزوجا أو بحياته إحداهما, حدثها قليلا عن بعض العلاقات التي كثيرا ما تنتهي بسبب عدم تفهم البعض لظروفه, ثم غير الموضوع عن أهمية البحث العلمي ودورهم في خدمة العالم, قالت له “كنت متخيلة“, سألها متعجبا “تقصدي إيه؟” قالت “أنت عندك ستة وثلاثين, وعملت إنجازات كبيرة جدا” ضحكت خجلا وأضافت, “شفت سيرتك الذاتية وقريت بعض المقالات عنك يا دكتور سليمان”. في تلك اللحظة, ثذكر صوت امه وهي تقول له “النجاح جميل, لكن لا تنسى قلبك حبيبي“. ثم نظر إليها مسرعا ليخفي معالم وجه وقال, آديل قولي لي فقط أدهم, ضحكت وردت آدام.

********
أسوان 2009

كان موعد مناقشة الماجيستر قد إقترب, بعد مرور عامين على تخرجه و إكمال سنة الإمتياز, يجد نفسه يغرق في قلق فايقابل رانيا لتهدأ من وطئته, ظلا معا على مرا عامين بإختلافتهما وتشابههما, يؤكد لها انها لم تخطأ كلما شعرت بالضعف وتحاول ان تصدقه, وتسانده وقت قلقه مؤمنة بنجاحه, قررت ان تأخذه لرحلة بأسوان مصرة أنه لابد أن يفرغ عقله كل حين وآخر, نجحت بمهمتها هناك, وبجانب النهر السائر سندت برأسها على كتفه وسألته “تفتكر هنكمل” “بتقولي ليه كده” “مجرد سؤال” “انت بتحلم تسافر وتكمل حياتك هناك, تفكيرك منصب على بحثك الجاي والدكتوراه, انا عارفة انك عايزني معاك, بس بجد عايزني معاك؟” نظر لها بعتاب, أشعل سجارة أخذها منها , ثم نظر إلى النيل امامهما, بعد قليلا عنها, ثم راحت تراقص كتفيها مع الهواء, إقتربت من أذنه وهمست “أدهم, وعدتني هتفضل جمبي, بس انت رسمت حياتك من زمان, ممكن نكمل, بس الاهم نكون صادقين في وعودنا

********

دعته آديل  إلى العشاء بمنزلها, بعد المؤتمر باليوم الثاني, ذهب في موعده, دعته إلى الانتظار بغرفة المعيشة حتى تنتهي من الطعام, وجد فيلما فرنسيا يدعى “Amour” قالت له إنه عن رجل مسن ينتحر بعد وفاة زوجته بعد مرض الزاهيمر, إنه حزين بعض الشيء لكنه جميل حقا, رفعت صوت الجهاز قليلا كان المشهد أن المرأة تحدثت بصوتأ شبه عالي, فاعتزرت على الفور من إسلوبها, قالت له, “شايف؟ هذا النوع من العلاقات يمكن انتهى!” تركته عائدة إلى المطبخ… سمع كلامتها وشعر بطعنة في قلبه, إقترب أكثر من الشاشة, وظل ينظر وكأنه رأى شبحا, تذكر رانيا حين قالت, “مش بقول الحياة خالية من المشاكل, إنت عارف إني عايشة في تحدي مع كل حاجة في حياتي, وبحب اواجه مشاكلي, بس ليه عند اول مشكلة بتتحول لشخص معرفوش, شخص بيهاجمني كأنه مايعرفنيش, إيه الحب يا أدهم لو بيجي وقت الحاجة وينهزم؟! ليه حبك العظيم بيختفي مع كل مشكلة بتواجهنا, أنامنش حالمة ولا عايشة في دنيا تانية, بس اللي بقوله بعيد عن خيالك الاناني”… قاطعته آديل وهي تنده, آدم آدام إين انت؟ ففزع لإدراك صوتها وقال “أنا بس, مافيش, بس الفيلم فعلا زي ما قلتي“, فوق مائدة الطعام تحدثا عن حياتهما كثيرا عن صديقه الكلب, عن طعامهما المفضل,عن الكتب التي يقرئونها وبعدا تماما أن يطرق بابها, حينما سمعت شغفه عن الرقص, لمعت عيانها الرزقاء وقالت, فلنرا إذا, إستمعا معا لبعض الالحان ,رقصا بعض الشيء, محاولا تذكر تلك الخطوات التي تعلمها منذ سنوات في مصر, حينما كانت تأخذه رانيا لتدخله بعض العوالم البعيده عن عالمه.

في يومه الثالث تحدث عن آخر بحث علمي له, ودعته آديل ورحلت مسرعة, لتسافر إلى لندن هذا اليوم, شعر بفراغ في قلبه في هذه اللحظة, إنتهى المؤتمر ولا يوجد ما يملأ فراغه في هذه اللحظة, لم يعلو التصفيق على أفكاره هذا اليوم, قرر أن يذهب إلى جولة بالمدن المجاورة, وقف عند إحدى المقاهي المزدحمة وانتظر دوره ليأخذ قهوته ليكمل رحلته بعدها, ساعات قليلة ولم يقدر على المواصلة, وجد نفسه امام الفندق, ما ان وصل إلى غرفته حتى وجد نفسه امام حاسوبه, فتحه, وبدون تفكير قام بفتح هذه الرسالة القديمة, يرجع تاريخها إلى ستة سنوات, وبدأ يقرأ كلماته ردا على رسالة منها ” كان معاكي حق, يمكن كنا غلط لما قررنا نقرب, بس أنا عملت كل اللي اقدر عليه, اللي عمره ما كان كافي بالنسبالك, طول الوقت كنت بفكر إنك زكية ومختلفة, بس مش متأكد لو كنت شفتك كده علشان حبي ليكي أو لأ, إنت ماشية بلا خطا مدروسة, مش عارفة عايزة إيه, جايز لأنك شبهي في حاجات اتشديتلك, بس لما سألتيني لو كنا هنكمل, حسيت إني مهما عملت علشانك مش كافي, انت احلامك عادية وبقيتي بالنسبالي زي أي بنت عادية, بس اللي شايفه إن إحنا نقدر نفضل أصدقاء, رغم كل حاجة مكانك موجود”. قرأ رسالته مرة أخرى تلاها مرتان وظل يفكر بمدى سذاجته آنذاك. خفق قلبه بشده قبل أن يقرأ ردها, أخذ هذا النفس العميق ثم شرع يقرأ “مبروك يا أدهم إنك أخيرا شفت الحقيقة اللي طول الوقت كنت بتنكرها, مافيش مكان ليك جوايا كصديق, وبتمنى ليك حياة ناجحة مافيهاش أي حاجة عادية”. خرجت دموعا لم يترك لها سبيلا من قبل, كان دائما ما اراد ان تنفجر فيه وتنهال عليه بكلماتها الحادة, ولكن إختارت البعد.

********

في يومه الرابع إتصلت به آديل, تقابلا قبل موعد طائرته بساعتين, وجد نفسه يحكي لها عن فتاة قد احبها في الماضي, وكيف كان سعيدا لوجودها, شعر بخفة في الحديث معها, إقتربت منه آديل وقبلته, نظرت إليه وأعتذرت منه, قالت “اسفة, بس حسيت إني عايزة اعمل كده”.لم يقترب ويقبلها هو الآخر مثلما اراد, شعر بنوعا من التوتر, إذ انه بالفعل يرغب بذلك, ولكن لم يشعر ايضا انه يريدها ككل فتاة عبرت بحياته.

عاد إلى حياته المنشغلة كما كانت, كان يعمل على تحضير محاضرته المقبلة, وإذا به لا يجد ما يقول, شعر بثقل واراد التخلص منه, فتح حاسوبه وكتب رسالة

إلى رانيا

“صغيرتي, اتذكر كيف كنت احملك كالطفلة وكيف كنت تمرحين وتضحكين حولي, اتذكر نظراتك الدافئة, اتذكر انك وثقتي بي دون الآخرين, وخذلتك انا دون غيري, لم تكوني تمشي يوما دون خُطا واثقة, كنت انت الخطا الكاملة, أتذكر انك انت دون غيرك, كنت وستكوني صغيرتي, آسف لك وإذ كانت متأخرة, ربما سامحتيني منذ بعيد, اعرف قلبك جيدا, ولكن ادركت أني لم استطع انا مسامحة نفسي, اتمنى لكي كل الخير, ولتمشي دائما في خطاكي”

لم يقرأ رسالته مرة أخرى, فقط نظر إلى بريده عجزا عن إرسالها, ثم قرر أن يطبعها, انتظر بلهفة ان تخرج من الآلة, لفها وربطها ثم وضعها بزجاجة وقرر بحماس ان يلقيها بالمحيط.

نزل ليشرب قهوته في الهواء وقام بتحضير بعض المهام, وجد نفسه يتصل بآديل وسألها إذا كانت ترغب في زيارة مصر حقا.

 

Leave a comment