في العتمة

غيمة عظيمة حطت علي قريتنا، تنادي غيوم متفرقة في اقاصي السماء. حتي تكاثفت وترابطت فشكلت وحشا من الظلام يجثم علي صدورنا وانقشع بهاء الشمس.

قالوا خير، الغيمة يعني مطر والمطر خير.

مرت الليال بلا مطر، وازدادت العتمة. لولا ضوء الكشافات الشحيح لعشنا في ظلام دامس. تعطلت المصالح وذبلت المزروعات فملأ الحنق الصدور.

بعد صلاة العصر كثر اللغط في الجامع، حتي اسكتهم الامام. قال هو غضب من الله، كثر السكر والعهر في القرية، هي خمارة حامد، حطموها واطردوا صاحبها ينقشع الظلام.

بعد صلاة العشاء ذهبنا الي الخمارة، كل منا يحمل فأسه. اخرجنا صاحبها وقيدناه حتي هدمناها، ثم اشعلنا فيما تبقي النيران. وطردنا حامد في زفة رقص فيها الولدان.

بعد ليلتان خمدت النيران، ولم ينقشع الظلام.

كثر اللغط في الجامع وكادت الاياد ان تتشابك. زعق فيهم الامام. طردتم صاحب الخمارة لكن الخمر ما زالت تجري في عروقكم. توبوا الي ربكم ينقشع الظلام.

امتلأ الجامع بالمصلين، حتي اضطررنا لفرش الكلائم خارجه، وجهر الامام بصوته الذي يخلب الالباب. وسالت الدموع تتطلب العفو من الله. عشر ليال والجامع ممتلأ عن اخره والدموع تجري انهارا. ولم ينقشع الظلام.

خفت الارجل عن الجامع رويدا رويدا، حتي قصرت الصلاة علي الامام وسطر من المصلين. وكثرت السرقات وانتشر الهرج، كل ممسك بتلابيب جاره. حتي اذن مؤذن في القرية ان الاجتماع الليلة في مضيفة الكرام.

امتلأت المضيفة بالرجال، يتساءلون عن صاحب النداء، حتي ظهر حسام، دكتور الجامعة المثقف. قال طردتم صاحب الخمارة وكنتم انتم مرتادهوا، وسالت دموعكم طلبا العفو من الله بلا صدق. عمت الحقيقة عن قلوبكم فأخفي الله عنكم ضياءه. اعيدوا لكل ذي حق حقه ينقشع عنكم الظلام.

كنا جميعا نفهم ما يلمح اليه حسام. كان يقصد حكاية صابر ونائب الحزب. عرض عليه ان يشتري ارضه بأبخس الأموال، مع وعد بمكان في الحزب ووظيفة جيدة في القاهرة. ولما رفض صابر جن جنون النائب، كيف يرفض فلاح معدوم طلبه وعطاياه يشهد بها كل من في القرية. بعث عليه بعضا من احبابه، قتلوا صابر واستولوا علي ارضه. واشتري النائب كل الاراض المحيطة، لم يكن احد ليرفض بعد حكاية صابر. جرف الارض وانتزع المحاصيل من جذورها، ثم بني عليها برج شاهق، متعدد الاغراض. في الدور الاول سوبر ماركت ادخل للقرية كل ما كانوا يروه في اعلانات التلفيزيون، واجر بعض من الادوار لاحبابه. ثم وضع علي الدور الاخير شعار الحزب.

كثرت الهمهمات في المضيفة، نائب الحزب ليس بحامد صاحب الخمارة، هو رجل له وضعه وله عائلة كبيرة تحميه. هب فيهم حسام، ايه خايفين؟ وانفض المجلس.

مرت الليال بلا شمس ولا نهار. وكثرت المشاجرات. تناثرت اشاعات ان حسام ومجموعة من شباب القرية هم من وراء تشوية مبني الحزب. وتأججت القلوب. إمام الجامع جمع مريديه واخذ ينشر في القرية رسالة الاخوة والسلام. فالعنف لا يدفع الا لعنف. والرضا هو اساس الايمان.

وفي ليلة من ليال الظلام الدامس رأينا النور يعني العيون، حسام وكل شباب القرية، كل يحمل في يد مشعل من نار وفي اليد الاخري فأس، ذاهبون الي مقر الحزب.

سمعنا صوت الرصاص ينزع القلوب. ثم خف صوت الرصاص، وتجمعنا كلنا حول حسام وجماعته يحطمون الحزب ويمسكون رواده من تلابيبهم يطردونهم خارج القرية. فتفائلنا جميعا ببزوغ النهار.

ثم مرت الليال تشد الليال، ولم ينقشع الظلام.

يحكي الأجداد عن أسطورة قديمة تقول ان السحاب هو انعكاس لما في صدور اهل الأرض. اسطورة عن الصراع الساكن بين الزيف والحقيقة. كلما زاد الزيف في الصدور كلما تجمعت السحب قاتمة. يتساوي مقدار الزيف مع الحقيقة فتمطر السحب أمطارا تروي صدور المحبين. كلما قل الزيف ظهرت السماء صافية، الا من بعض السحب البيضاء تستر وجه السماء. يملأ الزيف والتصنع الصدور ويجري منهم مجري الدم فيهبط ظلام دامس يطهر الناس من زيفهم، فيظهرون حقيقتهم، يكثر الهرج والمرج ويكثر سفك الدماء. وتمر سنوات عجاف ينتشر فيها القحط والفقر. حتي يهدأ الناس وينقشع ظلام صدورهم رويدا رويدا، حينها ينقشع الظلام.

11 thoughts on “في العتمة

  1. لمستنى فى وصف الحال, و لكنها تحتاج ان تكتمل, شعرت ان ينقصها شئ لتكتمل

    Like

  2. ممممم! لغتها مسترسلة جدا 🙂 حسيتها حكاية من حكاوي تراث البلد -حاجة حلوة يعني- الوصف والنقلات من فقرة لفقرة طبيعي ومسترسل، بس في حاجة في القفلة، يمكن أنا اللي مش فاهماها

    شكرا انك كتبت استدعيت جو الورشة المنير 🙂

    Liked by 2 people

    1. جميلة، ذكرتنى بكلام صنع الله ابراهيم عن ان كل الحكايات اتحكت المهم احنا بنحكيها ازاى

      Liked by 3 people

  3. هيثم العزيز
    يوم ما نشرت هذه الحكاية قرأتها في نفس اللحظة وأنا في تونس أجلس أما البحر 🙂 وكتبت لك رأيي ، ولكني اليوم في بيتي في الشروق واكتشفت إني تعليقي غير موجود 😦

    سأحاول إعادة كتابة تعليقي على حكايتك ..
    شدتني الحكاية من أول لحظة تمكنت من رؤيتهم وسماع صوتهم وتولدت لدي رغبة في معرفة ماذا سيحدث مع كل مشهد أو مقطع جديد ..عرفت تدخلني عالم هذه الحكاية .. هذا هو ما حدث معي .
    أحببت لغتك وشعرت بها تتطور

    حبيتها حكايتك يا هيثم 🙂

    وبالنسبة للفقرة الأخيرة التي أضفتها .. حبيت فكرتها وكمان عجبني النص ، لكن حسيت إنك بتشرح لنا تقصد إيه من الحكاية بتاعتك وأظن إن ده مش مطلوب ، والله أعلم

    Liked by 1 person

      1. ههههههههه
        ده بيأكد أن الجماهير مش ممكن ترضيها كلها ولهذا يجب أن تضيف ما تعتقد أنك حقا مقتنع برغبتك في إضافته
        صباح الفل وكل سنة وإنت طيب وفي انتظار الحكاية اللي اللي جايه

        Liked by 1 person

Leave a comment